الفن مرآة الواقع سواء عن قصد أو لا

الفن مرآة الواقع سواء عن قصد أو لا
الفن مرآة الواقع كم مرة سمعنا عن اكتشافات جديدة لمقابر أو معابد للفراعنة أو للرومانيين أو غيرهم؟ وفي كل مرة نجد العلماء يلافونا بتقارير وافية عن حالة الاكتشاف وما يمثله وعمره وتاريخه وهندسته ورسوماته وإلاما يرمز كل هذا. ولا ينفك أن يبهرنا كل تلك التفاسير والاستنتاجات التي يقدمونها لا سيما لدقتها في تحديد تفاصيل دقيقة جدا. كل هذا ما كان ليصلنا لولا وجد الفن. الفن، مهما تستر وتجمل، لا يخفي عصره. ولهذا السبب، يأتي سؤالنا هنا: إن كان الفن مرآة للواقع، أيصح محاكات بشاعته؟
في الآونة الأخيرة، جسد عدد كبير جدا من الإنتاجات الفنية بشاعة الحقيقة وقسوتها وركز جل الطاقة إلى تصوير الدنيا وكأنها غابة لا حياة! وعندما كان يسأل أي مخرج أو منتج أو مؤلف عن سبب هذا التدني والتطرف في القسوة وإظهار ما يشين مجتمعاتنا، كان ردهم واحد وهو: “نحن نجسد الواقع، هذه هي الحياة التي نعيشها!”
إذا قارنا بين فن الزمن الجميل والفن حاليا لوجدنا اختلافات كثيرة وكبيرة فيه وفي تلقينا له. فنحن عندما ننتهي من مشاهدة فيلما رقيقا مهذبا نشعر بالسعادة والانبساط ولكن بعدما نشاهد فيلما عن منعدمي الضمير أو تجار مخدرات نشعر بحالة من النقم على مجتمعاتنا! وبالطبع ليس هذا مقصد الفن. ومن هنا تأتي المشكلة الكبيرة والقديمة وهي: ما هي رسالة الفن حقيقة وهل عليه أن يجسد الواقع كما هو أم يجميله أم ينتقي منه ما يعرض فقط؟
إليكم بعض الآراء في هذه القضية:
قال أفلاطون أن الفن مجرد تقليد للواقع، والواقع في نظره كان تقليدا هو الآخر لواقع أسمى لا يُنال إلا في المدن الفاضلة وبالتالي فغاية الفن مجرد النقل.
ولكن كان لخليفته أرسطو رأي مختلف قليلا إذ قال إن الفن بالفعل تقليد للواقع ولكنه ليس فقط نقلا له بل هو يمجد كل جميل وغايته الإكمال والتجميل بغية العثور على ما يجمعنا. ولعل من أشهر مقولاته هي: “هدف الفن ليس لإعادة تمثيل مظهر الأشياء الخارجي بل معناها الداخلي”.
قال الرسام جورجيو فاساري من عصر النهضة عن الرسم إنه محاكاة لكافة الكائنات الحية بألوانها وهيئاتها كما هي في الطبيعة”. وهو بذلك يتفق مع أفلاطون.
ومع بداية القرن التاسع عشر بدأت الأنظار تتوجه، عوضا عن المحاكاة أو المعنى الباطني إلى تعبير الفنان نفسه عن مشاعره من خلال ما يراه. وعرفت تلك الحركة الفنية باسم الرومانسية وكانت نظريتها الفكرية تسمى “النظرية التعبيرية عن الفن”. وهي حركة أعطت حرية عظيمة للفنان وأفكاره عوضا عن الحقيقة ومعانيها.
فقال تولستوي إن الفن “نشاط إنساني… فيه ينقل الإنسان مشاعر للناس بإرادته فتتأثر بها الناس ويعيشونها بداخلهم”. وهنا اختزل مجال الفن بالكامل وأهدافه إلى مجرد مشاعر تنقل لا أفكار وأهداف أيدولوجية.
فظهر المعارضون ومنهم ليوناردو دا فينشي الذي قال إن “الفن ملك العلوم في إيصال المعارف لكل أجيال العالم”. إذ شدد على أهمية الفن في نقل المعاني والأفكار.
وظل الفن هكذا، يتنقل بين تيارات الفكر ويحظى بتعريفات جديدة ومختلفة ومتناقضة أيضا بين الحين والآخر. ولكن لعل ما نطوق إليه في عصرنا هذا هو تعريف الفن وفقا للشاعر الأمريكي روبرت فروست القائل بأن: “بالنسبة ]له[ ما يفعله الفن هو تنظيف الحياة”.
الأسباب وراء مطالبة الناس فنا نظيفا لا يمثل إسفاف كثيرة ومنها
- هل تهتم لأمر أطفالك؟ إن نعم، فاعلم أن لـ20 ثانية فقط من مشاهدة التلفاز القدرة على جعل طفلك يقوم بتقليد ما رآه وذلك وفقا لأبحاث أجريت في جامعة ولاية ميتشيجين. وجرت مرة دراسة على أطفال شاهدوا فيديو عن أطفال تقطع دُما، وعندما أعطوا دُما بعد ذلك، 90% منهم قاموا بتقطيعها بالمثل! بينما غيرهم ممن لم يشاهدوا الفيديو لم يفعلوا ذلك. فالأطفال تتعلم بالمحاكاة.
- ظاهرة تفشي تقليد أبطال الأفلام الذين يروجون لصورة الأبطال ولكن بالخروج عن القانون والتعدي على الغير.
- الجرائم التي تعتمد في خطتها على الفن مثال قضية قتل إدوارد شيرمان زوجته إلين شيرمان باستخدام خطة فيلما رآه وكان هذا الفيلم “بلاك آوت”.
- الاستهتار بالمشاعر الإنسانية واستهلاكها بشكل مبالغ ومفرط لكسب مشاهدة عالية كبرامج المقالب أو الاستعطاف لرؤية ردود الأفعال وكأن المشاعر سلع يستهزأ بها والذي يدفع الناس لعمل تلك المقالب على بعضها والضحك من بعضهم البعض وأمام الغير.
- الاستهتار بقوة الفن العظمى على تغيير التاريخ والقوانين! فإذا نظرنا إلى ستينيات القرن الماضي وتحديدا في أمريكا، سنجد أنه كان عقد المطالبة بالحريات ولكن لما كانت المظاهرات غير مجدية كان الغريب أن الفن هو ما حققها فباتت الآن ليست غريبة على العالم كله وذلك بسبب عرضها دائما والترويج لها في الفن. مثل تلك التوجهات: القضية النسوية Feminism وقضية حقوق الأمريكان الأفريقيين وغيرها الأقوى.
- الاستهتار بالفن كوسيلة تعليمية. فالفن إذا وظف بشكل جيد ستكون قدراته التعليمية في مجالات العلوم المختلفة مذهلة! فكثير منا تعلموا قواعد كبيرة من النحو من أغاني الرسوم المتحركة وكذلك جداول الضرب وغيرها.
- جعل الفن آداة للتسلية الهادفة التي يمكن مشاهدتها والاستمتاع بها أمام جميع أفراد العائلة دون الترقب والتخوف مما قد يعرض أو يلفظ في كل مشهد!
- التفنن في إظهار قدرة الإنسان على الحقد وكره الغير والغدر به! كلها أمور توسع من إدراك المتلقي وتزيد من خبراته السلبية.
- تصوير الفن حال الأمم أمام قرائنها وأمام الأجيال القادمة. فمن منا يريد أن يظهر مجتمعه بصورة سيئة!
في الختام، الفن ممارسة جميلة تنفس عن طاقات وإبداعات، فكيف له أن ينصب فقط على تصوير القبح! ولعل الأديان هي المرشد الأقوى في هذه النقطة، وإذا رجعنا لها سنجد أنها تحث على اتباع كل جميل لا ينفر، وكل مفيد له أن يسمو بأرواح متلقيه ولا ينحدر بها، وبعدم نشر القبح لكي لا يشيع. فهل هذا ما تعتقدونه أم لا؟ وترى ما هي فلسفتكم عن رسالة الفن؟ وهل يجب أن يكون الفن مرآة الواقع أم لا؟